امي كذبت علي.
.
.
.
.
.
.
.
تبدأ القصة عند ولادتي ، فكنت الابن الوحيد في أسرة شديدة الفقر
فلم يكن لدينا من الطعام ما يكفينا ....
وإذا وجدنا في يوم من الأيام بعضا ًمن الأرز لنأكله
ويسد جوعنا : كانت أمي تعطيني نصيبها ..
وبينما كانت تحوِّل الأرز من طبقها إلى طبقي كانت تقول :
يا ولدي تناول هذا الأرز ، فأنا لست جائعة .
وكانت هذه كذبتها الأولى
وعندما كبرت أنا شيئا قليلا كانت أمي تنتهي من شئون المنزل
وتذهب للصيد في نهر صغير
بجوار منزلنا ، وكان عندها أمل أن أتناول سمكة قد تساعدني
على أن أتغذى وأنمو ، وفي مرة من المرات
استطاعت بفضل الله أن تصطاد سمكتين ، أسرعت إلى البيت وأعدت الغذاء
ووضعت السمكتين أمامي فبدأت أنا أتناول السمكة الأولى
شيئا فشيئا ، وكانت أمي تتناول
ما يتبقى من اللحم حول العظام والشوك ، فاهتز قلبي لذلك ،
وضعت السمكة الأخرى أمامها لتأكلها ،
فأعادتها أمامي فورا وقالت :
يا ولدي تناول هذه السمكة أيضا،ألا تعرف أني لا أحب السمك ..
.وكانت هذه كذبتها الثانية
وعندما كبرت أنا كان لابد أن ألتحق بالمدرسة ، ولم يكن
معنا من المال ما يكفي
مصروفات الدراسة ، ذهبت أمي إلى السوق واتفقت مع موظف
بأحد محال الملابس
أن تقوم هي بتسويق البضاعة بأن تدور على المنازل وتعرض الملابس
على السيدات ، وفي ليلة
شتاء ممطرة ، تأخرت أمي في العمل وكنت أنتظرها بالمنزل ،
فخرجت أبحث عنها في الشوارع المجاورة ،
ووجدتها تحمل البضائع وتطرق أبواب البيوت ، فناديتها : أمي ،
هيا نعود إلى المنزل فالوقت متأخر
والبرد شديد وبإمكانك أن تواصلي العمل في الصباح ،
فابتسمت أمي وقالت لي :
يا ولدي أنا لست مرهقة ..
وكانت هذه كذبتها الثالثة
وفي يوم كان اختبار آخر العام بالمدرسة ، أصرت أمي
على الذهاب معي ، ودخلت أنا
ووقفت هي تنتظر خروجي في حرارة الشمس المحرقة ،
وعندما دق الجرس وانتهى الامتحان
خرجت لها فاحتضنتني بقوة ودفء وبشرتني
بالتوفيق من الله تعالى ، ووجدت معها كوبا فيه مشروب
كانت قد اشترته لي كي أتناوله عند خروجي ، فشربته من شدة العطش
حتى ارتويت ،
بالرغم من أن احتضان أمي لي : كان أكثر بردا وسلاما ،
وفجأة نظرت إلى وجهها فوجدت العرق يتصبب منه
، فأعطيتها الكوب على الفور وقلت لها : اشربي يا أمي ، فردت :
يا ولدي اشرب أنت ، أنا لست عطشانة ..
وكانت هذه كذبتها الرابعة
وبعد وفاة أبي كان على أمي أن تعيش حياة الأم الأرملة الوحيدة ،
وأصبحت مسؤولية البيت
تقع عليها وحدها ، ويجب عليها أن توفر جميع الاحتياجات ،
فأصبحت الحياة أكثر تعقيدا
وصرنا نعاني الجوع ، كان عمي رجلا طيبا وكان يسكن بجانبنا
ويرسل لنا ما نسد به جوعنا ،
وعندما رأى الجيران حالتنا تتدهور من سيء إلى أسوأ ،
نصحوا أمي بأن تتزوج رجلا ينفق علينا
فهي لازالت صغيرة ، ولكن أمي رفضت الزواج قائلة :
أنا لست بحاجة إلى الحب ..
وكانت هذه كذبتها الخامسة
وبعدما انتهيت من دراستي وتخرجت من الجامعة ،
حصلت على وظيفة إلى حد ما جيدة ،
واعتقدت أن هذا هو الوقت المناسب لكي تستريح
أمي وتترك لي مسؤولية الإنفاق على المنزل ،
وكانت في ذلك الوقت لم يعد لديها من الصحة
ما يعينها على أن تطوف بالمنازل ،
فكانت تفرش فرشا في السوق وتبيع الخضروات كل صباح ،
فلما رفضت أن تترك العمل
خصصت لها جزءا من راتبي ، فرفضت أن تأخذه قائلة :
يا ولدي احتفظ بمالك ، إن معي من المال ما يكفيني ..
وكانت هذه كذبتها السادسة
وبجانب عملي واصلت دراستي كي أحصل على درجة الماجيستير ،
وبالفعل نجحت وارتفع راتبي ،
ومنحتني الشركة الألمانية التي أعمل بها الفرصة للعمل
بالفرع الرئيسي لها بألمانيا ، فشعرت بسعادة بالغة ،
وبدأت أحلم ببداية جديدة وحياة سعيدة ،
وبعدما سافرت وهيأت الظروف ، اتصلت بأمي أدعوها
لكي تأتي للإقامة معي ، ولكنها لم تحب أن تضايقني وقالت :
يا ولدي .. أنا لست معتادة على المعيشة المترفة ...
وكانت هذه كذبتها السابعة
كبرت أمي وأصبحت في سن الشيخوخة ، وأصابها مرض السرطان اللعين ،
وكان يجب أن يكون بجانبها من يمرضها ،
ولكن ماذا أفعل فبيني وبين أمي الحبيبة بلاد ،
تركت كل شيء وذهبت لزيارتها في منزلنا ،
فوجدتها طريحة الفراش بعد إجراء العملية ،
عندما رأتني حاولت أمي أن تبتسم لي ولكن قلبي
كان يحترق لأنها كانت هزيلة جدا وضعيفة ،
ليست أمي التي أعرفها ، انهمرت الدموع من عيني
ولكن أمي حاولت أن تواسيني فقالت :
لا تبكي يا ولدي فأنا لا أشعر بالألم ...
وكانت هذه كذبتها الثامنة
وبعدما قالت لي ذلك ، أغلقت عينيها ، فلم تفتحهما بعدها أبدا ...
إلى كل من ينعم بوجود أمه في حياته :
حافظ على هذه النعمة قبل أن تحزن على فقدانها ...
وإلى كل من فقد أمه الحبيبة :
تذكر دائما كم تعبت من أجلك فلا تنساها من دعائك رحمك الله